مراجعة فيلم The Irishman.. أيقونة سينمائية جديدة تتوج مسيرة مُبدعيها

واجه سيناريو فيلم The Irishman الذي أبدعه ستيفين زايليان عدة تحديات أو معوقات أولها أنه بصدد تناول قصة شبه معتادة في السينما، نظراً للكم الهائل من الأفلام التي توغلت في العالم الظلامي لعصابات المافيا وعلاقات قاداتها برجال الدولة والسياسيين سواء الفاسدين المتحالفين معهم أو الصالحين المعادين لهم، أما ثانيها أن هذا النوع من أفلام السينما -التي انتشرت خلال عقد السبعينات واستمرت حتى أوائل التسعينات- قد تراجعت شعبيتها نسبياً وتراجعت معها معدلات إنتاجها لصالح أنماط سينمائية أخرى خاصة المعتمدة على الإبهار المصري مثل أفلام الحركة وأفلام الخيال العلمي، بينما التحدي الثالث -الذي فرضه الفيلم على نفسه- هو طول مدة العرض المبالغ فيها نسبياً.

برع السيناريو في اجتياز التحديات الثلاثة أو بمعنى أدق استغل التحدي الثالث "طول المدة الزمنية" في تخطي التحدي الأول وهو "اعتياد القصة"؛ إذ سمح له ذلك في كشف جوانب أكثر اتساعاً من العالم الذي تدور به الأحداث وكشف قدر أكبر من تفاصيله بصورة غير مسبوقة بالأفلام المنتمية لذات الفئة. كما أن أسلوب السرد المُتبع -والذي لم يلتزم بالتسلسل الزمني الطبيعي- كان له دور بارز في الحفاظ على تركيز المشاهد وضبط إيقاع الفيلم الذي جاء متوازناً في أغلب الفصول دون إبطاء ممل أو تسارع مُربك.

نجح سيناريو فيلم The Irishman في تقديم العديد من الخطوط الدرامية الفرعية الخاصة بالشخصيات الأخرى بخلاف شخصية "الأيرلندي" -محور الفيلم- وتعمق بالقدر الملائم بتلك الخطوط، لكن مع الحفاظ على ربطها الدائم بالخط الرئيسي للأحداث، والأهم أن الانتقال بين تلك الخطوط والشخصيات وحتى الفترات الزمنية تم بسلاسة وهدوء دون دفع المُشاهد للتشتت أو فقد التركيز.

قبل اختتام الحديث عن نص فيلم The Irishman لابد من التطرق إلى الحوار الذي كان مميزاً وعميقاً ولكنه في ذات الوقت غير متكلف أو مُفتعل، وقد ساهم الحوار بصورة فعالة في طرد شبح الملل عن الفيلم خاصة في المشاهد الطويلة، كما أن الجمل الحوارية كتبت بحرفية شديدة لتكون ملائمة لطبيعة الشخصية المُتحدثة بما في ذلك الدُعابات التي تخللته والتي وُظّفت بصورة مثالية لكسر حِدة بعض المَشاهد.

Advertisements

يكثر الحديث عن المؤثرات الخاصة والتعديلات الحاسوبية في عالم السينما حين نكون بصدد تناول أحد أفلام الخيال العلمي أو أفلام الكوميكس، لكن الحال مختلف نسبياً بالنسبة لفيلم The Irishman حيث كان للمؤثرات دوراً مؤثراً به ولكنه مختلف عن الدور السائد والمتعارف عليه في الآونة الأخيرة.

تم الاعتماد على التقنيات الحديثة في التلاعب بأعمار شخصيات الفيلم وبالأخص شخصية "فرانك شيران \ الأيرلندي"، فقد تم استعمالها في جعل الشخصية تبدو أصغر كثيراً من العمر الحقيقي للممثل وفي أحيان أخرى تم الاعتماد عليها ليصبح أكثر تقدماً في العمر، وفي الحالتين كانت مُتقنة بدرجة كبيرة وزاد من روعتها الأداء المُتقن من "روبرت دي نيرو" الذي كان متزناً ومُتماشياً مع الفئة العمرية التي يُعبر عنها دون مبالغة أو افتعال.

كانت عناصر تصميم الإنتاج كذلك في أفضل حالتها –ملابس وديكور- ونجحت في أن تكون معبرة عن كل حقبة من الحقب الزمنية العديدة التي مر بها الفيلم على مدار أحداثه.

Advertisements

من الرائع أن تستمع إلى مقطوعة موسيقية فريدة من العزف المنفرد ولكن الأروع أن تكون تلك المقطوعة سيمفونية تعزف من قبل أوركسترا كامل جميع عناصره على ذات المستوى من المهارة والجودة، يُعد النمط الثاني هو المُعبر عن فيلم The Irishman والفضل -كل الفضل- في ذلك يعود إلى قائد الأوركسترا المخرج المخضرم مارتن سكورسيزي.

أكبر تحديات سيكورسيزي أنه كان في مواجهة مع ذاته باعتباره أحد أشهر من قدموا أفلام الجريمة بصفة عامة وأفلام المافيا على وجه الخصوص، بل أن أفلامه من هذه الفئة تعد أيقونات سينمائية وفي مقدمتهم فيلم Casino إنتاج عام 1995 وفيلم Goodfellas عام 1990 ويزيد من حجم التحدي أن كلا الفيلمين كانا من بطولة روبرت دي نيرو أيضاً وشارك جو بيشي في أحدهما!

خلاصة القول أن مارتن سكورسيزي قد نجح في اختبار فيلم The Irishman بجدارة، يبدو أنه قد تعامل مع الفيلم باعتباره تتويجاً لمسيرته السينمائية المديدة والزاخرة بالروائع والإنجازات، فقد كان كالعادة متحكماً في أدواته بارعاً في استغلالها وتوظيفها بالشكل الأمثل في التوقيت المناسب، لعل ذلك هو سر عدم الشعور بوجود ثمة تكرار رغم تعدد القواسم المشتركة بين فيلم The Irishman وأفلامه السابقة.

برع سكورسيزي في استعراض قصته المتشعبة -والمعقدة أحياناً- بأسلوب السهل الممتع، كان ينتقل بين الأحداث المتعاقبة والفترات الزمنية العديدة التي تجري خلالها أحداث الفيلم بسلاسة، ذلك دون الإخلال بإيقاع الفيلم الذي ظل متوازناً من الافتتاحية وحتى الخاتمة رغم طول مدة عرض الفيلم التي تصل إلى قرابة 3 ساعات ونصف الساعة تقريبا.