تعتبر شخصية الجوكر واحدة من أبرز الشخصيات الشريرة في عالم القصص المصورة، وأن الشهرة التي تتمتع بها تضاهي شهرة شخصيات الأبطال الخارقين أنفسهم، وبناء على ذلك كان من الطبيعي أن يتم استغلال الشخصية تلفزيونياً وسينمائياً أكثر من مرة، حتى أنه يُجرى حالياً تصوير فيلمٍ مستقلٍ خاص بالشخصية بعنوان Joker من بطولة خواكين فينيكس، ومن المقرر عرضه في سنة 2019.
جسد شخصية الجوكر -عدو باتمان اللدود- العديد من الممثلين في الأعمال التلفزيونية والسينمائية المختلفة من أبرزهم جاك نيكلسون، جاريد ليتو، سيزار روميرو، لكن تبقى النسخة الخاصة بالممثل هيث ليدجر الذي جسدها ضمن أحداث فيلم The Dark Knight إنتاج 2008 هي الأكثر شهرة والمُفضلة للفئة الأكبر من الجماهير، وقد حاز ليدجر عنها بجائزة الأوسكار لأفضل ممثل في دور مساعد، حتى أن البعض يرى أنه بما قدمه من أداء مميز ومُتقن قد رفع سقف التحديات أمام كل ممثل يفكر في الاقتراب من تلك الشخصية مرة أخرى.
يكثر الحديث عن "أداء هيث ليدجر" لكن لا يلتفت الكثيرين إلى "ما أداه هيث ليدجر" والفارق الشاسع بين الاثنين؛ حيث أن أداء هيث ليدجر -رغم سحره- لم يكن في النهاية سوى بلورة للعديد من العوامل الأخرى التي ساهمت مُجتمعة في رفع أسهم تلك النسخة من شخصية الجوكر وتخليدها في ذاكرة المشاهد وتصنيفها ضمن قائمة أفضل الشخصيات الشريرة في تاريخ السينما العالمية.
Advertisements
الإنسان يخشى ما يجهله
|
The Dark Knight © Warner Bros. Pictures |
ذُكِرت عبارة "الإنسان يخشى ما يجهله" على لسان شخصية رأس الغول ضمن أحداث الفيلم الأول Batman Begins، وقد طبّق المخرج
كريستوفر نولان النصيحة حرفياً في الجزء الثاني The Dark Knight من خلال شخصية الجوكر، حيث جعله شخصاً بلا هوية، أو بالأدق شخصاً بلا هوية واضحة. فهو شخص لا يعرف أحد اسمه أو محل ميلاده أو كيف نشأ.
أحاط سيناريو فيلم The Dark Knight ماضي شخصية الجوكر بقدر كبير من الغموض، فبات كأنه شرٌ محض تَولّد من العدم، نعلم جميعاً بوجوده بيننا لكننا لا نعلم مصدره ولا من أين جاء، وبالتالي لا يمكن التكهن بأفعاله أو تصرفاته بصورة واضحة، حتى يمكن القول بأن الجوكر رغم كونه الأضعف جسمانياً بين أعداء باتمان ضمن الثلاثية إلا أنه كان أكثرهم قدرة على إثارة مخاوف وتوتر المُشاهد، والفضل الأول في ذلك يرجع إلى هالة الغموض التي أُحيِط بها.
هل كانت الشخصية بلا ماضي حقاً؟!
|
The Dark Knight © Warner Bros. Pictures |
قد تبدو تلك النقطة -في ظاهرها- مُتناقضة مع النقطة السالفة ذكرها لكنها في واقع الأمر على النقيض تماماً من ذلك، فمن الأمور المتعارف عليها في عالم السينما أن المعرفة المُسبقة بخلفية الشخصيات -خاصة الشريرة منها- يزيدها عمقاً وثِقلاً، ورغم أن شخصية الجوكر -نظرياً- قد وُجِدت من العدم ضمن سياق الأحداث، إلا أن الأخوين نولان قد استطاعا ببراعة مذهلة في دعم الشخصية ووضع تصرفاتها في سياق من المنطق دون الإخلال بحالة الغموض المسيطرة عليها.
لم يتطرق فيلم The Dark Knight إلى خلفية شخصية الجوكر بشكل واضح، لكنه أعلمنا أن مأساته الحقيقية قد تولدت من خلال الحادثة التي تعرض لها ونتجت عنها الندوب البارزة حول فمه، وقد ذكر الجوكر نفسه خلال أحداث الفيلم أكثر من رواية حول كيفية تعرضه لتلك الإصابة، ولا يُمكن ترجيح أي منهما على الأخرى بل قد تكون كافة الروايات كاذبة خاصة أنها صادرة عن شخص مراوغ مثل الجوكر، لكنها في النهاية تُثبت أن تلك الندوب كانت نقطة التحول في حياته، وأنها كما أصابت وجهه فقد أصابت عقله أيضاً.
كذلك الحوار الخاص بالشخصية قد تضمن بعض التلميحات حول ماضيه؛ إذ من الواضح أن الجوكر يشعر بالغضب تجاه النظام القائم في مدينة جوثام وخاصة رجال الدولة ورجال القانون، مما دفع البعض إلى افتراض أنه قد تعرض للظلم ذات مرة ولم يأبه أحد بما أصابه، نذكر هنا أنه في أحد حواراته قد تطرق للحديث عن حافلة جنود تعرضت لحادث ولم يهتم أحد في حين كان من الممكن أن تقوم الدنيا ولا تقعد إذا تم مساس العُمدة التافه -حسب وصفه- بسوء.
Advertisements
تأثير الشخصية على سير الأحداث
|
The Dark Knight © Warner Bros. Pictures |
أحد أبرز العيوب شيوعاً في أفلام الحركة والإثارة بصفة عامة وأفلام الكوميكس بشكل خاص هي الاهتمام بشخصية البطل مقابل تهميش شخصية الخصم، مما يُفقد الفيلم قدراً كبيراً من توازنه ويجعله أكثر سطحية، ويقتصر دور الخصم -أو الشرير- في تلك الحالة على إيجاد ذريعة لحشو الفيلم بأكبر قدر ممكن من المعارك ومشاهد الإثارة! إلا أن ذلك بكل تأكيد لا ينطبق على أفلام ثلاثية فارس الظلام بشكل عام وفيلم The Dark Knight بشكل خاص.
أحد أبرز العوامل التي تُميز الجوكر الخاص بالممثل
هيث ليدجر عن غيره هو أنه كان جزءاً أصيلاً من العمل الفني، لم يكن عنصراً إضافياً أو مجرد استيفاء لتكوين فيلم البطل الخارق التقليدي، بل أن The Dark Knight اهتم بشخصية الجوكر بنفس درجة اهتمامه بشخصية البطل باتمان نفسه، بل حتى أن الجوكر كان في كثير من الأحيان هو المُحَرِّك الأول لسير الأحداث لدرجة أنه في أحد فصول الفيلم كان قادراً على التلاعب بالشخصيات الثلاثة الرئيسية على الجانب الآخر، وهم "بروس واين، هارفي دنت وجيم غوردن".
ساهمت تلك العوامل مُجتمعةً في دعم موقف شخصية الجوكر ومضاعفة تأثيره على الأحداث، الأمر الذي جعل منه أحد الأشرار الاستثنائيين في تاريخ السينما العالمية. بالتأكيد كانت نسخة الجوكر التي قُدِمت في فيلم Batman عام 1989 -التي جسدها المخضرم
جاك نيكلسون- مؤثرة بقوة في سير الأحداث ولكنها لم تصل إلى درجة التأثير التي حققتها نسخة
هيث ليدجر.
Advertisements
فلسفة الشخصية الخاصة
|
The Dark Knight © Warner Bros. Pictures |
مصدر الشر الحقيقي هو العقل أما الأفعال فما هي إلا انعكاسات للأفكار والمعتقدات الراسخة به، وقد كان العمل بتلك القاعدة أحد العوامل التي مَيّزت شخصية الجوكر الخاصة
بهيث ليدجر على النسخ الأخرى للشخصية، وبالأخص النسخة التي قدمها الممثل
جاريد ليتو ضمن أحداث فيلم Suicide Squad عام 2016.
الجوكر الذي جسده هيث ليدجر وأفرزته رؤية كريستوفر نولان الناضجة لم يكن شريراً أجوفاً، يظهر على الشاشة ليُطلق الضحكات الجنونية ويُفرغ خزائن الذخيرة في صدور الأبرياء ويُمزقهم بآلاته الحادة فحسب، بل كان داهيةً بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ومُخطِّط بارغ ذو عقلية إجرامية فذة، قادر على رسم أعقد الخُطط واستغلال الآخرين -بعلمهم أو بدونه- في إتمامها بنجاح، واتضح ذلك جلياً في المشهد الافتتاحي للفيلم وكذلك في مجموعة المشاهد التي تضمنت احتجازه داخل وحدة عميد الشرطة غوردن، بل أن إنكار الجوكر الدائم لامتلاكه خطة كان في الحقيقة جزءاً لا يتجزأ من خطته!
يمتلك الجوكر -بالإضافة لذلك- فلسفة خاصة وهو ما جعل غايته من وراء أفعاله الإجرامية مخالفاً للمعتاد والمألوف من الشخصيات الشريرة في الأفلام، فهو لا يسعى إلى مكسب مادي أو انتقام شخصي بالمعنى التقليدي، وقد عَبَّر ألفريد -خادم بروس واين- عن طبيعة الشخصية بعبارته "بعض الأشخاص لا يرغبون إلا في رؤية العالم يحترق"، إلا أن تفكير الجوكر كان أكثر عمقاً من عبارة ألفريد حيث أنه لم يكن يُرِد فقط رؤية العالم يحترق فحسب، بل كان يرى أن المجتمعات الفاسدة تحمل بذور تدميرها في باطنها وأن كل ما عليه فعله هو تحفيزها فقط!
Advertisements
الجوكر بين المظهر والجوهر
|
The Dark Knight © Warner Bros. Pictures |
آخر نقطة يمكن تناولها حول شخصية الجوكر هي أول العوامل التي لفتت الأنظار إليه، والتي تتعلق بالتكوين الشكلي أو مظهر الشخصية والمُتمثل في الملابس والمكياج. فوفقاً للأخبار وما وَرَد باللقاءات التي أُجريت مع صُنّاع الفيلم فإن ذلك كان من أكثر الأمور التي أرهقتهم، وأن عملية الوصول للمظهر النهائي لشخصية الجوكر قد استغرقت منهم وقتاً طويلاً، وللصدق فإن الأمر كان يستحق.
كان هدف المخرجين السابقين واللاحقين لكريستوفر نولان في تناول شخصية الجوكر من مكياج الشخصية، هو أن يجعلوه ذو مظهر مرعب يليق بمهرج مهووس يعيث فساداً في شوارع مدينة جوثام، إلا أن صُنّاع فيلم The Dark Knight أرادوا أن تكون نسخة الشخصية الخاصة بهم أكثر عمقاً من سابقاتها، لذلك كان قرارهم من البداية أن يكون مظهر شخصية الجوكر مُتصلاً بجوهرها ومُعبراً عن طبيعتها بشكل أكثر دقة.
الجوكر شخص يختلق الفوضى من العدم ولهذا لم يرد المخرج كريستوفر نولان أن يكون في مظهره -أو بالأحرى ملابسه- أي عنصر غريب أو غير تقليدي، بل حرص على أن تكون قطع ملابسه بالكامل معتادة وتقليدية ويمكن مصادفتها في أي متجر للملابس الجاهزة، لكن حين تجتمع تلك القطع معاً تُعطي ذلك الإيجاء بالفوضى أو عدم التناسق، الأمر نفسه ينطبق على المكياج المميز للشخصية الذي جاء فوضوياً بدرجة كبيرة ليعكس طبيعة الشخصية، كما أنه يحمل دلالة أخرى وهي أن الجوكر من يضعه لنفسه بنفسه وقد رأينا في بعض المشاهد آثار مساحيق التجميل على أصابعه.
Advertisements
بين الجوكر السابق والجوكر المُرتقب!
|
The Dark Knight © Warner Bros. Pictures |
صدقت توقعات الجماهير وعجز أول ممثل حاول تجسيد الشخصية بعد
هيث ليدجر عن الارتقاء لمستوى الأداء الذي قدمه، وهو الممثل
جاريد ليتو الذي جسدها من خلال فيلم Suicide Squad ضمن سلسلة أفلام عالم دي سي السينمائي الممتد DC Extended Universe، على الرغم من أنه ممثل بارع وله عدد كبير من الأدوار الأخرى المميزة التي قادته للحصول على خمسين جائزة فنية عالمية من بينها جائزة الأوسكار لأفضل ممثل مساعد في فيلم Dallas Buyers Club.
السر في ذلك يرجع إلى أن المنافسة الحقيقية لم تكن بين
جاريد ليتو وهيث ليدجر، إنما كانت بين فيلمي The Dark Knight وSuicide Squad وبين المخرجين
كريستوفر نولان وديفيد آير؛ إذ إن الجوكر في النهاية هو عنصر ضمن عمل فني متكامل إما أن يرتقي به أو يهوي معه، وبالتأكيد هناك فارق كبير في المستوى الفني لكلٍّ من الفيلمين والرؤية الإبداعية لكلٍّ من المخرجين. فالشخصية في الفيلم الثاني لم تكن مرسومة بنفس الدقة أو الحرفية أو العمق، وهو ما انعكس سلباً على أداء
جاريد ليتو الذي جاء سطحياً يعتمد بصورة شبه كاملة على الهستيرية المبالغ فيها!
بناء على ذلك يمكن القول أن مسؤولية تقديم الشخصية الشهيرة بالصورة اللائقة في عام 2019 لا تقع على عاتق الممثل
خواكين فينيكس وحده، بل أنها تقع في المقام الأول على عاتق الكاتب والمخرج
تود فيليبس قبل خوض التحدي الأكبر. فهل ستنجح التجربة في تجاوز نجاح
ليدجر ونولان أم ستكون مجرد محاولة فاشلة جديدة تلحق بمحاولة
جاريد ليتو وديفيد آير؟.. إجابة هذا السؤال تتطلب منا بعض الصبر وانتظار عرض الفيلم في أكتوبر 2019، وحتى ذلك الحين سوف يبقى
هيث ليدجر متربعاً على العرش بصفته أفضل من جسد الجوكر على الشاشة الكبيرة.
أنظر أيضا:
خواكين فينيكس في أول ظهور لشخصية فيلم Joker بمكياج عادي لكن بضحكة تعتبر الأكثر شراً في تاريخ شخصية الجوكر
استمتعت وحزنت لان المقال انتهى.