من الجميل جدا أن نزور التاريخ من وقت لآخر، فنحن في وقت وصلت فيه البشرية لمستويات عظيمة في اكتشاف الفضاء الواسع، وأن نعود إلى النقطة التي كانت البداية الأولى للبشرية نحو اكتشاف الكون له تأثير رائع في وقتنا الحالي. على الرغم من حقيقة أن صعود الانسان إلى القمر يبقى محل شك منذ مدة، فهل فعلا أمريكا صعدت إلى هناك في القرن الماضي، أما أنها عبارة عن خدعة كما يقول الكثيرين؟ سنحاول مناقشة هذا السؤال من بعد في هذه المراجعة بعد أن نتحدث عن واحد من أعظم أفلام هذه السنة.
قد يبدو فيلم First Man وكأنه حول قصة الصعود والهبوط على سطح القمر المستوحاة من القصة الواقعية لمحاولة ناسا إرسال أول بشري إلى هناك خلال ستينيات القرن الماضي، لكنه في الحقيقة يدور حول معاناة رائد فضاء فقد أحد أفراد عائلته بينما يستعد للصعود إلى القمر، حيث سيحاول ألا يفقد ما تبقى من عائلته مركزا على المهمة فقط.
شاهدتُ العديد من أفلام الفضاء والكون، لكن تقريبا لم أشاهد فيلم مثلها هذا. فأغلبها تركز على جانب المغامرة فيها لا مبالية بالجانب الإنساني فيها. أعتبر هذا العمل السينمائي يُركز حول العلاقة الانسانية وتأثيرها على قراراتنا في الحياة أكثر من فيلم حول الصعود إلى القمر. فيلم درامي يحمل في طياته معاني عميقة حول مفهوم العائلة والروابط الهيكلية التي تُبقيها صامدة مهما كانت الحياة قاسية. كل هذا قدمه لنا الممثل ريان رينولدز والممثلة كلير فوي في واحدة من أفضل الأداءات الدرامية لهذه السنة، ومن المرجح أن نرى ترشحهما للأوسكار السنة المقبلة في جائزتي أفضل دور رئيسي وأفضل دور مساعد على التوالي.
لكن ذلك، لا يعني أن الفيلم لا يعتبر جيد في تعامله مع جانب اكتشاف الفضاء والصعود إلى القمر، بالعكس. فإن أنجزنا قائمة حول أفضل الأفلام التي ناقشت هذا الموضوع، سيكون الفيلم حاضرا بقوة في مراتب متقدمة بفضل مجموعة من الأمور المدهشة، أولها الموسيقى التصويرية المتميزة والرائعة والتي أضفت طابعا فريدا ومؤثرا لقصة الفيلم الدرامية. واحدة من أفضل الموسيقى التصويرية التي يمكنك سماعها هذه السنة، لدرجة أنني أستمع لها بعيدا عن الفيلم على طول اليوم. موسيقى تحمل من الإلهام والأمل الشيء الكثير.
ثاني شيء أعجبني هو طريقة التصوير الأكثر من رائعة والتي كانت مختارة بعناية ومدروسة جيدا لتعطي للفيلم تلك اللمسة الفريدة به، ولعل أول فيلم جاءني على البال وأنا اشاهده هو Interstellar الذي يتشارك معه في العديد من اللقطات التي تحملك إلى داخل أحداث الفيلم، وهذا بفضل نفس طاقم التصوير والديكور الذين عملوا في الفيلمين معا. كل هذا يرجع فيه الفضل للمخرج داميان شازيل الذي كان ذكيا وبارعا في تقديم هذه القصة المؤثرة، مخرج شاب واعد مستقبلا. فأنْ تنجز فيلم حول محاولة الصعود إلى القمر وتقدمه بهذه الطريقة المؤثرة... شيء رائع! خصوصا في مشهد الهبوط على القمر وتلك اللقطة التي أظهرت لنا وضع قدم رائد الفضاء نيل أرمسترونغ على سطحه، حيث اختارها المخرج أن تكون من وجهة نظر بطل القصة (Point-of-view shot)، وكأننا نحن معه تطأ أقدامنها أيضا للمرة الأولى في تاريخ البشرية على سطح القمر.
وهنا بالضبط في هذا المشهد ظهرت مرة أخرى براعة المخرج، إذ كانت لقطات هبوط السفينة الفضائية على السطح تحبس الأنفاس وكأنك تشاهد مشهد الالتحام الشهير بين السفينتين من فيلم Interstellar. ثم أضف لذلك لقطات الكاميرا المبهرة عندما كان البطل في لحظة مؤثرة أمام تلك الفوهة وهو يتذكر ذلك العضو من عائلته الذي فقده. قصة رائعة حقيقة، فالبطل لم يعد يفهم شيئا في الحياة وما يحصل له بعد تلك الفاجعة، لكن عندما سافر الاف الكيلومترات من كوكب الأرض في اتجاه القمر نحو المجهول، في تلك اللحظة استوعب ما يحدث له وفهم أن عليه النسيان ومواصلة الحياة، وأن عليه أن يكون شاكرا لأن لا تزال له عائلة وأطفال آخرين ينتظرون رجوعه. واحد من أفضل المشاهد المؤثرة والعميقة التي ستشاهدها في حياتك.
دعنا الآن نتحدث عن حقيقة الصعود إلى القمر، وهل فعلا أمريكا نزلت على سطحه خلال القرن الماضي. في الحقيقة لن أجادل حول هذا الأمر، لكن سأحاول أن أبسط مجموعة من الحقائق وأترك لك حرية تصديق ما شئت. تقريبا جميعا رأينا مشهد من مشاهد الصور الوثائقية التي نشرتها ناسا حول رائد الفضاء نيل أرمسترونغ وهو ينزل من السفينة ويمشي على القمر بصفته أول كائن من الأرض يفعل ذلك، لكن أهم شيء في تلك اللحظة التاريخية هو العلم الأمريكي الذي غرسه أرمسترونغ على السطح. التناقض هنا، هو أن في هذا الفيلم تم التغاضي بالكامل عن إظهار العلم الأمريكي في مشهد النزول على سطح القمر، بل صوروا الفيلم وكأنه لم يكن هناك أي علم إطلاقا! هذا الأمر خلق موجة من الغضب لدى الجمهور الأمريكي عقب إصداره الشهر الماضي، حيث احتج العديد حول عدم إظهار مشهد العلم الأمريكي والذي يعتبر من أهم الأمور التي ميزت رحلة نزول أمريكا على سطح القمر. ألا يبدو لك الأمر مريبا بعض الشيء؟!
إن كانت فعلا أمريكا قد صعدت إلى القمر، ففي الفيلم يجب توثيق كل ما حدث عندها، خصوصا إظهار العلم الأمريكي لأنه يعتبر لحظة تاريخية شهدت عليها البشرية في ما سبق. الأمر الذي سيقودنا للتساؤل حول حذفه من الفيلم! في الصور الوثائقية التي أطلقتها ناسا في ما مضى، أظهرت لنا العلم الأمريكي وهو يُرفرف على سطح القمر وبجانبه الرائد أرمسترونغ، جميل.. كل شيء جيد لحد الآن. المشكل هو أن الرياح لا توجد في الفضاء ولا على سطح القمر! (وهذا الأمر مؤكد علميا)، وبالتالي كيف سيُرفر لك العلم على سطح القمر إذا لم تكن هناك رياح؟ أترى التناقض هنا؟ أنا لا أقُر لك بأن أمريكا لم تصعد إلى القمر، فهى تعتبر من أقوى الأمم في التاريخ ومن مقدورها الصعود إلى ما أبعد من القمر في ستينيات القرن الماضي، لكن أن يُرفر العلم على سطح القمر! هذا أكبر خطأ يمكن أن تقوم به. وقد تم انتقاد ناسا حول هذه النقطة أكثر من مرة من طرف الصحافة والعديد من وسائل الإعلام والكثير من العلماء، لكن لحد الآن لم يُجيبوا إطلاقا على هذا السؤال.
دعني أزد لك الطين بلة.. إذا صعدت أمريكا إلى القمر في ستينيات القرن الماضي، لماذا لم ترجع منذ ذلك الوقت إلى هناك؟ البشرية تطورت في زمننا الحالي لمستويات خيالية جدا. ألم يعد الرجوع إلى القمر مهما إطلاقا؟ هناك شيء ما مريب حول كل ما يخص الصعود إلى القمر وقضية عدم الرجوع إليه...
دعنا الآن من هذه الأمور التي تشبه نظريات المؤامرة لأن في ذلك نقاش طويل غير منتهي، ودعنا نركز على هذا الفيلم الدرامي سواء كان مبني على قصة حقيقية أو خيالي.
فيلم رائع وجميل، فأن تحول قصة حول الصعود إلى القمر بشكل متوازي إلى قصة درامية تلعب فيها العائلة دورا محوريا في تغيير مجرى الأحداث، فإنك أمام واحد من أفضل الأعمال الإبداعية والفريدة وأفضلها ضمن إنتاجات السنة.
فيما يخص النقط الدرامية الضعيفة للفيلم، هناك شيء واحد اعتبرته سيء نوعا ما وسيتفق معي الكثير حوله، هو بطئ تسلسل الأحداث في البداية إلى حدود منتصف الفيلم. بناءُ القصة كان جيد ودرامي بشكل رائع لكنه كان طويلا بعض الشيء، إذ قد يجعل الكثير من المشاهدين يُحسون بالملل في البداية، لكن إذا كان لك شيء من الصبر وأنهيت الفيلم ستنسى كل ذلك، لأن الفيلم جميل صراحة ومؤثر جدا من ناحية قصته وما يواجهه رائد الفضاء وعائلته.
بعيدا عن ذلك، الفيلم يُمثل كل ما نفتقده في أفلام البوكس أوفيس التجارية وأفلام الأبطال خارقين في وقتنا الحالي. هذا الفيلم هو العكس تماما لما تقدمه تلك الأفلام، فعندما كانت النية لإخراجه أظن أنهم لم يُفكروا إطلاقا في الجانب المادي للفيلم وهل سيُحقق الإيرادات الكثيرة، لأنهم أرادوا إنجاز فيلم فني إبداعي وليس عمل مليء بالمؤثرات البصرية المبالغ فيها والقصص الدرامية السطحية، لماذا؟ لأن هذا الفيلم ليس موجه للجميع، وكل ذلك يعود فيه الفضل للمخرج داميان شازيل صاحب الفيلمين الفريدين Whiplash و La la land.
بدون شك سنرى العمل حاضر في العديد من المهرجانات السينمائية القادمة وسينافس بقوة في العديد من الجوائز، كالموسيقى التصويرية المدهشة صراحة؛ التمثيل الدرامي الجميل؛ طريقة التصوير الفريدة؛ الإخراج الإبداعي جدا...