يأخنا المخرج والكاتب "ديفيد لوري David Lowery" في قصة غريبة وغير مألوفة تناقش فكرةْ ما الذي يحدث للأرواح (أو الأشباح، حسب ثقافتك) بعد الموت، وذلك من خلال نظرة شخصية للكاتب يُبحر بنا فيها في مغامرة تجمع بين الحب، الزمن، الفقدان وشساعة الوجود. فكم شخص منا تسائل في يوم من الأيام عن ماهية الحقيقة وطبيعة الوجود ما بعد موت شخص ما، هل يبقى هناك اتصال بيننا وبينهم؟ هل يبقى هناك رابط يجعلهم يُحسون ويشعرون بنا؟ أم يذهبون إلى وجود آخر لا علم لنا به؟ هل إلى الجنة؟ هل إلى جهنم؟ هل يرجعون إلى خالقهم؟ هل مفهوم الزمن يبقى حاضر عندهم؟... لا أحد يعلم ولن يعلم أبدا.
Advertisements
لكن في هذا الفيلم، حاول المخرج أن يناقش معنا هذه المفاهيم من خلال تأويل شخصي؛ لا يعني بالضرورة أنه الحقيقة المطلقة أو الجواب للسؤال الأبدي. لكن رغم ذلك، يبقى تأويله هذا مثيرا للاهتمام في قصة أغرب من الخيال تدور حول عودة شبح شخص تُوفي حديثا لمنزله من أجل أن يتواصل من جديد مع زوجته التي أصبحت تائهة وفارغة داخليا بعد وفاته.
إذا كما قلنا، يُعتبر هذا الفيلم تأليف أو نظرة شخصية للمخرج والكاتب حول طبيعة الوجود بعد الموت، وهذا ما يفسره نسبة امتداد الكادر المصور به الفيلم (aspect ratio) والمحدد في 1.33، لأن أول شيء سيطرحه كل مشاهد للفيلم، هو لماذا ذلك الامتداد الذي يبدو وكأنه من سنوات السينما الأولى؟ فقط إشارة من المخرج أن ما يعالجه الفيلم يبقى نظرة شخصية خاصة به.
Image: A Ghost Story - Courtesy of A24
يبقى أيضا هذا الفيلم مثال قد يحِنُّ له البعض وقد يمتعض منه آخرين، مثال سيحن له من مر بتجربة فقدان شخص عزيز له. وهذا ما رأيناه تمر منه الزوجة، خصوصا في ذلك المشهد الطويل والغير منقطع حيث كانت تأكل فيه تلك الفطيرة. ذلك المشهد قد يبدو للبعض بسيط ولا معنى وراءه، أو حتى أنه تافه، لكن روعته تكمن في الحالة النفسية التي تمر منها الزوجة وكيف تعاني في صمت بعدما رحل عنها نصفها الآخر وتركها في عالم وحيد يملئه هول الوحشة.
Image: A Ghost Story - Courtesy of A24
من بين أكثر جوانب هذا الفيلم إثارة للذهول هو الجانب الزمني، حيث رأينا ذلك الشبح في عدة أزمنة، فمثلا عندما قفز من فوق تلك البناية لينتقل رجوعا نحو الماضي الغابر إلى المكان الذي بُني فيه منزلهما، حيث رأينا كم من شخص عاش في تلك الأرض من القرون الأولى قبل أن يصلا هما إلى ذلك المنزل ليسكناه، ثم رأينا كم من عائلة سكنته بعد موته ومغادرة زوجته منه، ثم بعد ذلك تم هدمه وبُنيت شركات فوقه، بمعنى مرور أزمنة طويلة وهو لا يزال متعلق، شيء ما لا يزال يربطه بهذا العالم!
Image: A Ghost Story - Courtesy of A24
مما سيجعلنا نطرح سؤال، كيف لهذا الشبح أن ينتقل بين هذه الأزمنة من الحاضر إلى الماضي والمستقبل؟ كل هذا يُفسر على أن الشبح لا يعيش الزمن بشكل مستقيم مثل البشر، بل يعيشه بشكل دوري، أي يمكنه التنقل بين الأزمنة رجوعا وذهابا متى شاء. لكن لماذا؟ كل شخص يمكنه تفسير لماذا حسب نظرته، فهناك من سيقول انه بعدما فقد الاتصال بالبشر، أصبح يبحث عن مغزى له في ذلك الوجود، لذلك انتقل عبر الأزمنة ليبحث عن جواب. هناك من سيقول أنه فقد وعيه بالجانب البشري فأصبح يبحث ليفهم تطور البشر عبر الأزمنة. هناك من سيقول أن ما كتبت زوجته في تلك الورقة وأخفتها بين الجدار هو شيء غامض بالنسبة له جعله عالق يبحث عن ماهيتها، خصوصا أنه لم يستطيع الوصول إليها. يبقى هذا الجانب مفتوح التأويل حسب كل شخص ونظرته للفيلم ولا أحد يعلم ما الذي كُتب فيها.
Advertisements
إذا قلنا أن الشبح يعيش الزمن بشكل دوري، بمعنى أنه إذا سافر عبر الأزمنة فقد يؤدي به إلى خلق حلقة متعددة من نفس الشبح (تماما مثل فيلم Predestination) لذلك في نهاية الفيلم رأينا أكثر من شبح، وربما السبب الذي دفعه لخلق هذه الحلقة المتكونة من عدة أشباح هو محاولة الوصول من جديد للمرة الأولى التي وضعت فيها زوجته تلك الرسالة من أجل أن يُخرجها ويعرف ماذا كُتب فيها. لكن ما معنى تلك الرسالة؟
Image: A Ghost Story - Courtesy of A24
في مشهد البداية عندما استفاق الشبح وفُتح له شيء يشبه الباب، يبدو وكأنه يؤدي إلى عالم آخر، ربما يمكننا أن نقول أن ذلك الباب يمثل المخرج الذي تغادر منه هذه الأرواح أو الأشباح من عالم البشر؛ من الدنيا؛ من العالم المادي إلى العالم الآخر، لكن ربما الذي منعه من ذلك هو الوداع الذي لم يحصل بينه وبين زوجته، مما جعله عالق في عالمنا هذا، وربما يتمثل هذا الوداع في تلك الرسالة التي كتبتها زوجته وأخفتها داخل جدار الحائط. لذلك، في نهاية الفيلم عندما قرأها أخيرا، انعدم واختفى!
Image: A Ghost Story - Courtesy of A24
ربما نفس الشيء هو ما حدث مع الشبح الآخر الذي كان في المنزل المقابل له، حيث كم من مرة رأيناه يتكلم معه ويخبره أنه ينتظر شخص ما، لنكتشف في الأخير أنه اظطر لمغادرة هذا العالم بعد استوعاب أنه كان ينتظر الفراغ ولا أحد قادم للقائه! أو ربما هو أيضا عثر على الشيء الذي كان يبقيه في هذا العالم، ربما وداع بشكل آخر... لا نعلم، لكن ما نعلمه أنهم يغادرون بمجرد انقطاع صلتهم بهذا العالم بالكامل.
وتبقى أهم رسالة يحاول إيصالها الفيلم، باعتبار أننا كائنات بشرية نتعرض للفقدان والخسارة دائما على طول هذه الحياة القصيرة، هي أنه يجب أن نتعلم كيف ومتى يجب النسيان، يجب تعلم الوداع، لا يجب أن نتعلق بأشخاص وأشياء لم تعد موجودة لن تنفعنا إلا بالأسى والحزن... انسى ما يجب نسيانه وأَحب من هم حولك ويحبونك، لأن الحياة أقصر مما نظن ولا أحد يعلم متى نغادرها.
لكن، هل سيكون هذا الفيلم رائع في نظرك؟ ليس بالضرورة، فهو ليس موجه للجميع، فقط لمن يبحثون عن الأفلام التي تكسر حاجز المألوف وتتجاوز القصص المستهلكة. ولحسن الحظ هناك الكثير من قدروا هذا العمل السينمائي المتميز، لأنه ببسطاة من أفضل أفلام سنة 2017.